الألفاظ اليمانية وبناء المعجم التاريخي العربي - حميد العواضي"اعلم أن لغة العرب لم تنته إلينا بكليتها، وأن الذي جاء من العرب قليل من كثير، وأن كثيرا من الكلم ذهب بذهاب أصله" ابن فارس
مقدمة:
لما كان موضوعنا هو بناء معجم تأريخي للّغة العربية، فإن تناولنا للألفاظ اليمانية وأثرها في بناء المعجم العربي لن يَتَطَرَّق للّهجة اليمنية المعاصرة وما تتسم به من خصوصية في نطاق اللغة العربية المشتركة، كما أننا لن نقف أمام ما ذكرته المصادر اللُّغوية العربية القديمة – المعاجم خاصة- من ألفاظ رأت أنها يمنية محضة؛ ذلك أنه قد صدر عنها -حتى الآن- جملة من الكتب والمنشورات العلمية والقوائم الإحصائية (انظر: الطعان1968 ؛Al-selwi1987 ؛الهلالي1988؛ الصلوي1990؛ الصلوي1991؛ Ghul1993؛ الإرياني1996؛ ناجي2004؛ المخلافي2004) لكن اهتمامنا سينصب على النظر إلى ما جاء في النقوش اليمنية القديمة من ألفاظ تستخدمها الآن اللغة العربية الفصحى دون تخصيص لانتمائها الإقليمي وبلا تاريخ لنشأتها.
وبهذا نَلِج إلى صلب التاريخ للغة العربية بمساعدة النقوش اليمانية، ووضع الفرضيات التاريخية لنشأة طائفة من ألفاظ اللغة العربية وتحديد أصولها بالإسناد التاريخي لما صار متوافرا الآن من المعلومات الآثارية. ويهدف البحث أساسا إلى إصابة مقصدين علميين يخدمان عملية التاريخ للغة العربية في شكلها المعجمي :
- تقديم مصدر جديد يساعد على ضبط المحطات التاريخية لبعض ألفاظ اللغة العربية من خلال النقوش المكتوبة التي ثبتت علميا فترات كتابتها في اليمن.
- التأصيل لفهم بعض الألفاظ العربية والتطور الدلالي والصرفي لها بالرجوع إلى أصولها في اللغة اليمنية القديمة.
ولا شك أن هذه المقاربة تحتاج إلى بيان العلاقة بين الدراسات المعجمية ودراسات النقوش القديمة وتحديد كيفية الاستفادة المتبادلة بينهما لبناء ما نحن بصدد الحديث عنه، أي المعجم التاريخي العربي.
أولا: الدراسات المعجمية ولغة النقوش
تقدمت البحوث الآثارية وخاصة ما يرتبط منها بدارسة لغة النقوش في معزل عن الدراسات المعجمية عامةً، ودراسات المعجم التاريخي العربي خاصةً. ولما كانت الأدبيات المرتبطة بدراسة المعاجم التاريخية محدودة في الكم والنطاق وفي عدد المهتمين، فإن وشائج القربى بين الاختصاصين لم تتكون بشكل واضح. فالمختصون في المعاجم ولغة النقوش يعمل كل منهم في معزل عن الآخر. ولعلنا نتمكن في هذه الدراسة من تسخير بعض المعارف حول لغة النقوش لخدمة التاريخ للمعجم العربي؛ وذلك باستقراء النقوش اليمنية القديمة التي صدرت عنها جملة من الدراسات والبحوث، كما صدرت عنها مجموعة من المعاجم المختصة، لكن النتائج لما تستخدم –حسب علمنا- في غرض التاريخ للغة العربية. مع أن هذه الدراسات والبحوث تحتوي على معلومات في تاريخ الألفاظ المدونة، ونجحت إلى حد مقبول في إنزالها في مقامها الحضاري زمانا ومكانا، كما نجحت في تفسيرها وشرحها في اللّغة العربية وبعض اللّغات الحية. وسوف نحاول انطلاقا من مفهوم المعجم التاريخي أن نعيد توظيف المعلومات اللّغوية الآثارية لخدمة هذا النوع من المعاجم.
1.1. تعريف المعجم التاريخي وعلم النقوش
ذهبت الدراسات المعجمية إلى تعريف المعجم التاريخي أنه كتاب " يضم قائمة من الكلمات لها قصة خاصة هي قصة حياة الكلمة منذ نشأتها وما عرفته من استعمالات وما حفّ بها من دلالات وما طرأ عليها من تغيرات. بل يمكن الخروج عن حدود اللسان الذي تنتمي الكلمة إلى نظامه لملاحقة الكلمة في رحلتها عبر الزمان والمكان إلى ألسنة أخرى." (البكوش 1989: 389 ) وهذا التعريف يحدد أبعاد المعجم التاريخي في تناوله نشأة الكلمة ثم تحولاتها ثم علاقتها باللغات الأخرى. أي أن المعاجم التاريخية "تهتم بالتغيرات التي تطرأ على بنية الوحدات المعجمية ومعناها في فترة أو فترات زمنية معينة" ( خليل، حلمي 1989: 303). وقريب من هذا المعنى، حُدد المعجم التاريخي أيضا أنه "نوع من المعاجم يرمي إلى تزويد القارئ بتاريخ الألفاظ ومعانيها من خلال تتبُّع تطورها منذ أقدم ظهور مسجّل لها حتّى يومنا هذا" (القاسمي 2008: 705 ).
ونفهم من هذه الصيغ الثلاث المتكاملة أن المعجم التاريخي يؤرخ للفظ نشأة وتطورا ومآلا في كنف اللغة أو في علاقتها رأسيا وأفقيا باللغات الأخرى من خلال سجل موثوق، أي مكتوب وقابل للتحديد في الزمان. فالتاريخ لأي لغة يعني عَقْلَنَة النظر إليها و"العَقْلَنَة تقتضي بداية لكل شيء، فكل مادة معجمية هي عالم له بَارِيه"(Dubois 1971 : 108) . فالتاريخ يشمل تحديد المصدر الأول للمبنى زماناً وصياغةً، أي التأثيل étymologie ،كما يشمل التاريخ تتبع الثابت والمتحول في المبنى والمعنى – متصلين في طور أو منفصلين في طور آخر - صوتا وصرفا ودلالة في ذات اللغة أو في علاقتها بالغات أخرى قريبة أو بعيدة منها. فالمعجم التاريخي يؤرخ لميلاد الكلمة – تاريخا دقيقا أو مقربا- كما يحدد مكان الولادة، ويتتبع تنقلاتها وتحولاتها صوتا وصرفا ونحوا ودلالة في سلم الزمان ونطاق المكان. وليس بعيدا عن هذا المقصد ما يهدف إليه علم النقوش من حيث مسعاه لتسجيل التاريخ وتحديد السياق الثقافي والحضاري والتّعرّف على المضمون التاريخي للنقوش القديمة وترجمتها إلى اللغات المعروفة. ومن هنا تقديرنا إمكانية إفادة المعجم التاريخي من هذا الاختصاص العلمي لتحقيق مقاصده في التاريخ لبعض ألفاظ اللغة العربية.
- 1. 2. النطاق الزمني للمعجم التاريخي وعلاقته بالنقوش
يُعدّ النطاق الزمني للمعجم التاريخي أحد المحددات الأساسية لجمع المادة المعجمية وتعريفها في المعجم المُزْمَع تأليفه. وقد حدد رائد فكرة المعجم التاريخي العربي المستشرق الألماني (أوغست فيشر) (1865-1949) نطاقا زمنيا يبدأ من نقش (النِمَارَة ) في القرن الرابع الميلادي وينتهي بالقرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي. أي أن النطاق الزمني للمعجم التاريخي العربي – حسب تصور فيشر – هو ستة قرون تقريبا. أما محتوى المعجم التاريخي كما تصوره فيشر فإنه "لا يجب أن يفرط في أي شيء ابتداء بالكتابة المنقوشة المعروفة بكتابة النمارة من القرن الرابع الميلادي ، منتهيا بالقرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي" (انظر الحمزاوي 1990: 23) .
وفي هذا النطاق يتم تناول الكلمات الموجودة في "القرآن والحديث والشعر، والأمثال، والمؤلفات التاريخية، والجغرافية، وكتب الأدب، والكتابات المنقوشة، والمخطوطات على أوراق البردي، وعلى النقود مادامت أنواع الآداب الشمالية المذكورة لم تتجاوز الحد المذكور..." (فيشر ص 26 ضمن لحمزاوي 1990:23). وهذا القول يقطع رأس اللغة العربية في مكوناتها الأولى السابقة للقرن الرابع الميلادي، كما يقطع أطرافها في مكوناتها اللاحقة بعد القرن التاسع الميلادي. زد على هذا أن (فيشر) يُرَكِّز على "الآداب الشمالية" كما يسميها في هذه المصادر، وهذا يجب أن يثير قلق المهتمين بالتاريخ لألفاظ اللغة العربية أنى كان مصدرها.
وقد تنبه (فيشر) نفسه إلى القطع الأخير، أي ما بعد القرن التاسع الميلادي، كما يبدو أنه أحس بضَرَرِه فرأى "اعتماد بعض المعاجم الخارجة عن نطاق المدة المحددة ..." الحمزاوي 1990: 23). لكنه لم ينظر إلى ما قبل القرن الرابع، وهذا الموقف يصيب بمقتل المرامي السبعة التي رسمها فيشر نفسه لمعجمه في تقديم الوجهات "التاريخية والاشتقاقية، والتصريفية، والتعبيرية والنحوية، والبيانية والأسلوبية." (فيشر ص 22 ضمن الحمزاوي 1990: 22). ويصيب بالخصوص الوجهة التاريخية التي تُجاوز – بالنسبة لفيشر - كل الوجهات الأخرى في القيمة. (الحمزاوي 1990: 22). كما يصيب الوجهة الاشتقاقية إصابة مباشرة إذا فهمنا في معناها معنى التأثيل أيضا. كما أن العمل بهذا الرأي سيضع المعجم العربي التاريخي أمام هَنَةٍ وقعت بها المعاجم القديمة في اعتمادها على مفهوم الفصاحة كما حدده القدماء زمانا ومكانا ونسبةً "عرقية". ( راجع الحمزاوي 1986، والودغيري 1989 ). كما أن هذا الاتجاه يتناقض مع مفهوم النظر التاريخي للغة حيث ينبغي أن "ينظر إلى تاريخ اللغة بوصفه سلسلة متنوعة من المسافات قياسا إلى نقطة محددة هي الاستعمال الحالي" (Dubois 1971 : 105) وهذا هو المبدأ الذي يجب أن نعتمده في عملنا للمعجم التاريخي العربي. ونجتنب المحذور الذي يجعل من "المعاجم التاريخية لا تحتفظ سوى بالمصطلحات والمعاني التي لم تعد موضع استخدام في الزمن الراهن" (Dubois 1971 : 105) . بعبارة أخرى المعجم المنشود هو معجم تطوري Diachronique و ليس معجما آنيا synchronique لفترة محددة وإن امتدت نسبيا.
إن وجهة نظرنا هي أن المعجم التاريخي في تصوره النظري يجب ألا يضع سقفا زمنيا لمصادره، وإنما يشترط الصحة في المصدر الذي يأخذ عنه وبالخصوص مبدأ التدوين نقشا أو كتابة. بهذا نحتفظ بالتعريف الشامل للمعجم التاريخي من حيث إنه "يُؤرخ لتطور الألفاظ في دلالتها (تعميما وتخصيصا، رقيَّا وانحطاطا)، وفي استعمالها (شيوعا، وندرة، ومكانا ، وزمانا، وموضوعا) منذ ولادتها في اللغة أو منذ اقتراضها من لغة أخرى حتى سباتها أو مماتها". (القاسمي 2008 : 705). وبهذا أيضا يمكن أن تُشَكِّلَ الاكتشافات الآثارية إضافةً نوعيةً إلى معرفتنا التاريخية عن اللغة العربية.
وهكذا يمكن الرجوع إلى ما قبل نقش (النمارة) المؤرخ 328م، والذي أشار إليه (فيشر) كحد أعلى، مثل نقش (أم الجمال) الأول الذي يُؤرَخ لكتابته بالنصف الثاني من القرن الثالث الميلادي (250 أو270م)، ونقش (رقوش) سنة 267م، ونقش (المابيات) سنة 280م، ونقش قرية (ذات كاهل) في القرن الثالث الميلادي. بل إلى ما هو أعرق من ذلك، أي إلى الأصول السامية، بتنوع لغاتها، بوصفها أصولا للعربية. وفي هذا المفصل من رأس اللغة تقع جملة النقوش العربية الشمالية القديمة (الثمودية، واللحيانية، والصفوية) وتقع أيضا جملة النقوش العربية الجنوبية، أي اليمنية التي نريد أن نُظْهِر أهميتَها في التاريخ للغة العربية. والمهمة هنا جسيمة وصعبة، وكما يقول أحد أشهر المعجميين في عصرنا "كلما كانت المادة [المعجمية] الموصوفة غنية كانت المخاطرة أعظم" (Rey, p.49) أي كلما اتسعت المادة صار نطاق الصرامة ضعيفا. ولكن العربية بتراثها وعراقتها تستحق هذه المخاطرة وتحتاج إلى الجهد والمثابرة.
إن التنقيب في أعماق التاريخ والنقوش لا يعقد مسألة التاريخ للغة العربية لأن عمق تكوين بعض الألفاظ وتطور دلالاتها يستند فعلا إلى هذا البعد التاريخي. والأمر هنا لا يخص إلا بعض الألفاظ العربية التي يمكن الاستفادة من الكشوف العلمية والآثارية في التاريخ لها. يجب أن نعرف أن كل كلمة لها سمكها التاريخي الذي ينبغي معرفته ويؤكد المعجميون إن"اللغة التي لها ثقافة ينعكس فيها ثراء ماضيها، تخون هذا الثراء إن هي تجاهلت هذا العمق التاريخي." (Dubois 1971 :108). إن عراقة اللغة العربية وقدرتها على تمثل مصادر تكوينها الأولى والسير بها إلى ما صارت عليه اليوم هو الهدف الأسمى للمعجم العربي التاريخي. إن التأخر الذي نعانيه اليوم في هذا الميدان ليس سببا للقيام بعمل مُبْتَسَرٍ لا يعطي العربية حقها التاريخي وأصالتها بين لغات العالم. يجب أن ندرك أنه "حتى عام 1965 لم تكن الفرنسية، والألمانية، والروسية، والإيطالية، والإسبانية، ولغات عدة أخرى تمتلك معجما تاريخيا علميا حديثا." (Rey, 1977 : 50) . فلا نقع تحت رُهاب التأخر في هذا الإنجاز لنقوم بعمل جزئي ، وإنما علينا البحث عن آلية علمية مُحَقِّقَة للغرض من الجهد.
لقد ظلت ألفاظ النقوش العربية الشمالية والجنوبية القديمة غالبا تدرس لغاياتٍ أُخَر غير القضية التاريخية للغة العربية، مع أن لغة النقوش القديمة مصدر أساسي للتاريخ للغة العربية، وموئل لمعرفة تحولاتها صوتا وصرفا ونحوا ودلالة. وكل الأعمال التي تسنى لنا الوقوف عليها لم تُقَدِّم حتى الآن إسنادا تاريخيا أومحطاتٍ مُزَمَّنَةً لبعض الألفاظ العربية. وهذه الدراسة تطمح أن تكسر هذا الحاجز ببعض الفرضيات التي لا شك أنها تحتاج إلى التدقيق والتحقيق، لكنها تضع المعجم التاريخي – في حدود ما هو مقبول علميا- في بداية الطريق الصحيح لتَزْمِين ألفاظه وتَحْيِين معانية. ونحن في هذا البحث نحاول أن نجد تأريخا موثقا علميا لأول استعمال مفترض تتوافر لنا عنه الصحة العلمية باعتبار أنه مدون في النقوش المكتشفة. أي له صحة علمية لا غبار عليها من حيث توافر شرط التدوين الكتابي، كشرط موضوعي أجمع عليه المختصون، وتحددت فترة الإسناد التاريخي له. وقد لا تكون أزمنة محددة بحقب الزمن القصيرة كالسنة والعقد وإنما أزمنة بامتداد أطول كالقرن والحقبة، لكن بالمتابعة والتحقيق والتدقيق سنصل إلى إزالة الهوة المتمثلة بانعدام التاريخ أصلا – كما هي الحال اليوم- إلى وجود تاريخ مُقَرّب قابل للنقد والتعديل وصولا إلى تقريب الفجوة بالتدقيق والضبط التاريخي بتوالي الأجيال وتوافر المعلومات. وكل التواريخ التي تقدمها المعاجم الأوربية التاريخية التي نعرفها هي "في كثير من الأحيان تواريخ نسبية تقريبية تسجل أول استعمال مكتوب" (البكوش 1989: 390). وبهذا نكون شرعنا في تقديم مسار جديد للباحثين تجتمع في كنفه معطيات الدراسات الآثارية مع احتياجات الدراسات المعجمية في سبيل بناء معجم تاريخي يستند إلى معطيات علمية صحيحة. ومهما كانت الآلية المتبعة لبناء المعجم العربي التاريخي فإن مرحلة النقوش مرحلة هامة وحاسمة في ضبط الأصول، ولا مفر من العودة إليها في كثير مما هو شائع من لغة العرب.
ثانيا: النقوش : مصادر لعربية ما قبل الإسلام
أشرنا أن العَقْلَنَة تقتضي ضبط بداية لكل شيء، وللغة العربية الفصحى بداية وإن اختلف الباحثون فيها. وليس هدف البحث الخوض في تفاصيل البداية، لكن يهمه أن يشير إلى أن التصور العام هو انعدام أي نص مكتوب بالعربية قبل الإسلام خلا "خمسة نصوص كتبت بعربية نبطية، أي بعربية فيها ألفاظ واردة في اللغة العربية الفصحى، لكن الإرمية أوالنبطية متحكمة في أسلوبها وفي قواعدها وفي الكثرة الغالبة من كلماتها بحيث تمنعها من أن تعدّ في عداد العربية الفصيحة" (جواد علي 8/638،639). ومع ذلك عُدّت تلك النصوص ممهدا للعربية في معجمها وكتابتها عند (فيشر) في نقش النمارة وعند جواد علي، و عند غيرهما.
يقول جواد علي عن نقش (النِمَارَة) - الذي سبقت الإشارة إليه ـ إنه يعد " ... أول كتابة وأقدم كتابة عثر عليها حتى الآن مدونة باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن، وإن كتب بالقلم النبطي المتأخر وبأسلوب متاثر بالإرمية." (جواد على 8/176). وفي هذا القول إطلاق مبالغ فيه حيث أن النقوش الثمودية والصفوية مدونة بلهجة عربية شمالية، والنقوش النبطية دونت بلهجة عربية شمالية داخلتها الأرامية. لكن جواد علي هنا يضع يده على حلقة هامة في تطور اللغة العربية وهي أنه ميّز بين لسانها وقلمها أي بين اللغة والكتابة. وهو ما يفصح عنه كتابه (المفصل ) في أكثر من موضع. وهذا أمر تعرفه عمليا لغات قديمة وحديثة (الفارسية المكتوبة بالقلم العربي، والتركية المكتوبة حاليا بالقلم اللاتينيى) وهو أمر سبق أن صاغته نظريات لسانية قديمة، فابن خلدون في (المقدمة : 27 ) يصف القلم أو الخط على وجه التحديد أن "ثاني رتبة من الدلالة اللغوية". وتعتبره النظريات الحديثة مواضعةً تاليةً للّغةِ (Dubois 2001 : 165). وهذا التمييز سوف يساعدنا على فهم العلاقة التي جمعت اللهجات أو اللغات المتشابهة لساناً المختلفة كتابةً، وبذلك يُمْكِن أن يُطَبّق على اللغة اليمنية القديمة التي كانت مصدرا للعربية في البداية لغةً وقلماً، ثم مات قلمها ولكن اللغة لم تمت وإنما صيغ مشتركها – و خاصها- بقلم آخر هو القلم العربي أو قلم الجزم كما يسمى، لأسباب ليس هنا مقام تفصيلها.
2. 1. موقع الألفاظ اليمنية في اللغة العربية
حين ضُبِط مفهوم الفصاحة وحُدِّد زمانا ومكانا ونسبةً، فإنه قد استتبع تحديد موقف نظري وعملي إزاء ما يقع خارج هذا النطاق تاريخيا وجغرافيا وديموغرافيا. ولم تكن الدوافع لذلك خلوا من الهوى، بل امتلأت بأسباب الصراع السياسية والاجتماعية و"العرقية"، وتضررت منها اللغة العربية لأنها كانت تسير وفقا لناموس التطور الطبيعي للغات في الواقع اليومي، ولكن خلافا لهذا الناموس كانت تسير عملية التدوين المعجمي.
وقد جاء الموقف النظري من اللغة اليمنية القديمة واضحا في أقوال بعض القدماء مثل قول أبي عمرو بن العلا :" ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا" (ابن سلام الطبقات :6). ومن بعده ابن جني (الخصائص 2/28) ثم الجاحظ (الرسائل 1/10) ثم لاحقا ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام: 30) وابن خلدون (المقدمة:462). وقد فهمت أحكام القدامى عند المختصين المعاصرين في اللهجات أنها أحكام مصدرها "الملاحظة المباشرة التي تتلمس الفروق الظاهرة على سطح الأصوات أو الكلمات أو التراكيب أو الدلالات فتسارع إلى الحكم بوجود المغايرة بين اللغتين" (المخلافي 2004: 64). كما عُدَّ موقفهم نتيجة لعدم توافر الأدوات المنهجية للدراسة القائمة على الإحصاء المفصل في ذلك الزمن. زد على هذا أن تتبع العلاقات أو المقارنة بين اللغات اختصاص وُلِد متأخرا وقد أفضى إلى مخالفة لكثير مما قاله القدماء، وجاء بكثير مما لم يتناولوه البتة.
أما المؤرخون فإن مؤدى تفسيرهم لقول أبي عمرو بن العلا أن ليس فيه "ما يدل على ازدراء شأن الحميرية أو الغض منها، وإنما هو تعبير عن حقيقة تاريخية، وهي أن الحميرية عربية أخرى، وهي حقيقة لا يجادل على صحتها أحد، كما أن الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية عربيات أخرى" (جواد على 8/639،640). ولما كانت الفصحى لا تخرج في أصولها عن هذه اللغات، فإن الإشكال هو حجم التواصل الذي بقي بعد توحد اللغات العربية القديمة في لغة واحدة. وجملة القول في هذا المضمار أن ثمة تعددا في مصادر اللغة العربية إنْ في الشمال أو في الجنوب "نريد أن نقول إن الاختلاف في هذه الناحية لم يكن بين شمالية موحدة ويمنية (جنوبية) موحدة وإنما كانت هناك اختلافات بين لهجات القبائل العربية قاطبة حتى بين اللهجات الشمالية نفسها كما تدل الشواهد التي حفظها لنا كتاب عرب بعد الإسلام" (بافقية 1985: 194). وقد أفاض الهمداني (892-970م) في شرح التعدد اللهجي في الجزيرة العربية على أيامه، وإنْ استخدم ألفاظا معيارية مما شاع في ذلك الزمان عن الفصاحة والعجمة. لكن أهمية نصه أنه أماط اللثام عن تعدد لغوي كبير في اليمن وبقية أنحاء الجزيرة العربية. بل أنه غيّر مفهوم الفصاحة بحسب التخوم والأزمنة التي حددها مدونو اللغة العربية. (انظر الهمداني، صفة جزيرة العرب:248 وما بعدها). والمهم أن نؤكد على تنوع مصادر تَكَوّن ما صار يُعْرَف باللغة العربية الفصحى وتعدد لهجاتها شمالا وجنوبا في مرحلة التكوين الأساسية، ثم في كل الاتجاهات على امتداد الوجود العربي الإسلامي في مرحلة التطور والرقي لاحقا.
2.2. تعريف اللغة اليمنية القديمة
إن الأدبيات التي تعرف بهذه اللغة كثيرة ومتعددة ولسنا بصدد استعراضها، بقدر ما نريد أن نستفيد منها في التاريخ للغة العربية. ولذلك سوف نركز على علاقة اللغة اليمنية القديمة باللغة العربية ومكانة كل منهما في صلب الأخرى. إن اللغة العربية من الفرع السامي الجنوبي ولعل اللغة اليمنية هي أقدم صورة لهذا الفرع. فهي أصل للتنوعات التي نشأت تحت هذا الفرع وشاعت في اليمن، وفي بقية أنحاء الجزيزة العربية والحبشة نتاجا لانتشار الحضارة اليمنية في هذه الأصقاع (روبان، كرستيان : 1985: 97) . و"الثابت لدى علماء النقوش القديمة أن حروف النقوش العربية الشمالية، ولغة النقوش العربية الجنوبية متطابقة لكونهما تنتميان إلى أصل عربي واحد، عُرف اصطلاحا بالفرع السامي الجنوبي، وأن الخطوط التي استعملها الثموديون، واللحيانيون، والصفويون في تدوين نقوشهم هي خطوط مشتقة من خط المسند" (الصلوي 2008: 71) ومثل هذا الرأي محل إجماع كثير من الباحثين في تاريخ اللغة العربية. يقول(شارل بلا): "تنتمي العربية إلى المجموعة الجنوبية من هذه اللغات مع لغة جنوب الجزيزة واللغة الحبشية في حين أن المجموعة الشمالية تمثلها الكنعانية (العبرية والفينقية) والأرامية والآكادية. وتعود جميع هذه اللغات الخاصة إلى أصل واحد هو السامية المشتركة وهي نفسها منحدرة عن لغة سامية أولى لا نعرف عنها إلا القليل" (بِلاّ، 1997: 42).
وليس مهما – في هذا المقام- الجدل حول انتماء العربية إلى الجنوب أو الشمال، لكن المهم هو التأكيد على تعددية مصادر تكون اللغة العربية وهي تعددية مركبة ، لأن مصادرها – جنوبا و شمالا- متعددة في ذواتها : هناك تعدد في لغات الشمال معروف ومشهور ذكر بعضه في هذه الاقتباسات، وهناك تعدد في لغات الجنوب حيث أثبت الآثاريون أنها مكونة من لهجات متعددة : سبئية، ومعينية، وقتبانية، وحضرمية، وهرمية..." (بافقية، 1985: 193، الصلوى 2008 :64) "وهذه اللهجات تشترك فيما بينها في كثير من خصائص النحو، والصرف، والمفردات، وتنفرد كل واحدة منها عن الأخرى في بعض الخصائص اللغوية والمفردات الخاصة بها" (الصلوي 2008: 64-65). مجمل هذه اللغات هي التي صارت تسمى بالحميرية عند الكتاب العرب القدامى، كون الدولة الحميرية هي آخر دولة يمنية استمرت حتى نهاية حكم الملك سيف بن ذي يزن قُبَيْل الإسلام.، في حين أنها تسمى لدى المحدثين باللغات السبئية "لأن الأكثرية من النقوش دونت في لغة سبأ، وينبغي أن يكون كل وصف لنحو هذه اللغات وتصريفها مبنيا على لغة سبأ." (بيستون، 1985: 68). ونحن هنا أسميناها اللغة اليمينة القديمة وهو اسم مرادف للاسم الأشهر (اللغة العربية الجنوبية)، وقد انطلقنا من كوْن اليمن، جغرافيا وتاريخيا ووجدانيا، هو الجزء الجنوبي من جزيرة العرب الذي سادت فيه كل هذه التنوعات اللغوية.
وجماع هذه اللهجات شكلت نواة ما صار يعرف باللغة العربية إن من الناحية اللسانية : أصل كتابتها أو معجمها أو أصواتها ، أو من الناحية الديموغرافية مجمل القبائل التي سكنت الجزيرة العربية وجمعها الإسلام في دولة واحدة. ومازال هذا التعدد قائما حتى الآن، وإن لم يحض بالدراسات المناسبة.
وقد استطاع علماء الآثار حتى الآن تعرف عدد وافر من النقوش اليمنية القديمة تربى على خمسة عشر ألف نقشٍ. وأصبحت معظم هذه النقوش متاحة على صفحات الانترنت راجع:
WWW. CSAI. Humnet.unipi.it . وكيفية الاستفادة منها للمعجم التاريخي أمر ممكن بل وأساسي. وقد ضبطت الفترات التاريخية لبعض النقوش بعدة طرق منها استخدام الآثاريين القرون الميلادية مفردة أو مزدوجة، كما قرنوا التاريخ أحيانا بالنسبة إلى عصور الممالك، وتم إنزال النقوش منزلتها التاريخية بناء على ذلك، وعلى دراسات مقارنة وفحوص علمية. زد على هذا أن بعض النقوش احتوت على تواريخ محددة. ومن ثَمَّ يمكن ضبط تاريخ مكتوب لفرضية الاستعمال الأول لبعض الألفاظ. وهذه العملية ليست مسحا عاما لكل ألفاظ اللغة اليمنية القديمة وإنما تتركز العملية في التاريخ لما له علاقة واضحة بالألفاظ العربية المعروفة. ومن ثَمَّ لسنا بحاجة إلى التاريخ للألفاظ المبادة من اللغة اليمنية أو ما يسمى بالألفاظ اليمانية الخاصة – فلذلك مقام آخر- ولكن نؤرخ للعربية من خلال تبدي أصل صيغها في اللغة اليمنية القديمة.
البقية تتبع 99999999999999