من ملامح الإعجاز العلمي في الآية التالية، وهي قوله تعالى: { لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون } (الحجر:15) ومعنى الآية: أنه لو فُتح باب من السماء لهؤلاء المنكرين لعظمة هذا الخالق، لقالوا: إنما سُكِّرت أعيننا وسُدَّت، أو غشيت وغطيت، فلم تعد تبصر شيئًا، وحينئذ - والحالة هذه - لم يعد يرى الإنسان إلا الظلام .
وهذا التشبيه القرآني البليغ يمثل حقيقة كونية أثبتها العلم الحديث اليوم، ولم يكن يعرفها الإنسان قبلُ؛ فبعد أن تمكن الإنسان من الوصول إلى الفضاء، اكتشف حقيقة أن الكون يغشاه الظلام الدامس في غالبية أجزائه، وأن حزام النهار في نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس لا يتعدى سمكه ( 200 كم ) فوق سطح البحر. وإذا ارتفع الإنسان فوق ذلك فإنه يرى الشمس قرصًا أزرق في صفحة سوداء حالكة السواد .
والقرآن الكريم قد أخبرنا بهذه الحقيقية قبل اكتشاف العلم لها، عندما شبَّه الذي يعرج في السماء بمن سُكِّرت أبصاره، فلم يعد يرى غير الظلام الشامل، والظلام الدامس؛ أو شبهه بمن اعتراه شيء من السحر، فلم يعد يُدرك شيئًا مما يدور حوله. وكلا التشبيهين تعبير دقيق عمَّا أصاب رواد الفضاء حين تجاوزوا نطاق النهار، ودخلوا في ظلمة الكون، فنطقوا بما يكاد يكون تعبيرًا عما أخبرت به الآية القرآنية، دون علم بها: { إنما سكرت أبصارنا }
أما الملمح ألإعجازي الثاني الذي نقف عليه في هذه الآية، فهو ما دل عليه قوله تعالى: {...لقالوا إنما سكرت أبصارنا...} ووجه ذلك، أن القول بـ ( تسكير الأبصار ) وظلمة الكون الشاملة إنما تتم وتكون بمجرد العروج في السماء لفترة قصيرة، ثم تظل الظلمة سائدة إلى نهاية الكون .
وقد أثبت العلم اليوم هذا بدقة شديدة، وبيان ذلك أننا إذا حسبنا النسبة المئوية لسمك طبقة النهار، وهي ( 200 كم ) إلى المسافة بين الأرض والشمس، وهي ( 150 مليون كم ) لكان حاصل النسبة هو ( 1/750 ) ألف تقريبًا، فإذا نسبنا الحاصل إلى نصف قطر الجزء المدرك من الكون لتبين أنه لا يساوي شيئًا البتة، ومن هنا تتضح لنا روعة التشبيه القرآني في قوله تعالى: { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون } (يـس:37) حيث شبه انحسار طبقة النهار البالغة الرقة بسلخ جلد الذبيحة الرقيق عن كامل بدنها، الأمر الذي يؤكد أن الظلام هو الأصل في الكون، وأن النهار ظاهرة عارضة رقيقة لا تظهر إلا في الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وفي نصفها المواجه للشمس في دورة الأرض حول نفسها أمام ذلك النجم، وبتلك الدورة ينسلخ النهار تدريجيًّا من ظلمة كلٍ من ليل الأرض وحلكة السماء، كما ينسلخ جلد الذبيحة من جسمها .
ومما يؤكد دوام ظلمة السماء ما قرره القرآن في مقام آخر، وهو قوله تعالى: { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها } (النازعـات:27-29) فالضمير في قوله سبحانه: { وأعطش ليلها } يعود إلى السماء، والمعنى أن الله تعالى قد جعل ليل السماء حالك السواد من شدة إظلامه، فهو دائم الإظلام، سواء اتصل بظلمة ليل الأرض أو انفصل عنها بتلك الطبقة الرقيقة التي يعمها نور النهار، فيصفه ربنا سبحانه بقوله: { وأخرج ضحاها } أي: أظهر ضوء شمس السماء؛ لإحساس المشاهدين لها من سكان الأرض بالنور والدفء معًا في نهار الأرض .
ويؤكد هذا المعنى ويوضحه، قَسَمَ الحقّ سبحانه بالنهار، إذ يجلي الشمس، أي: يكشفها ويوضحها، فيقول: { والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها } (الشمس:1-4) أي أن النهار هو الذي يجعل الشمس واضحة جلية لمن يراها من سكان الأرض. وهذه لمحة أخرى من لمحات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، تقرر أن ضوء الشمس لا يُرى إلا على هيئة النور في نهار الأرض، وأن الكون خارج نطاق الأرض ظلام دامس، وأن هذا النطاق النهاري لابد أن به من الصفات ما يعينه على إظهار وتجلية ضوء الشمس لأحياء الأرض .
هذه ملامح من ملامح الإعجاز القرآني وإنشاء الله نكمل السلسلة قريبا