أسطورة الهام في تصورات الناس الشعبية
بقلم / الأستاذ أنور حسن السكوتي
أن الباحث في فكر الناس وتصوراتهم الشعبية المتوارثة , سيجد من دون شك أن في تلك التصورات مواد غزيرة ومتنوعة , غنية في محتواها , جديرة بالوقوف على فحواها , مواد تستحق من الباحث دراستها واستلهام ماتخفيه بداخلها من معارف ودلالات لها ارتباطات بهوية أصحابها وثقافتهم بل وحتى تاريخهم والذي ربما لا تكون سواها مصدر له . ولنا في هذا المقال المتواضع أن نسلط الضوء على احدى تلك التصورات التي ارتبط بها وعينا الجمعي وتوارثها الحضارمه شفاهة عبر التاريخ , وان كان ما تبقى منها اليوم أشبه بتصورات هلامية سرعان ما تذوب من وهج النسيان واللامبالاة لمثل هذا الوعي الذي قد يصفه بعض الانتروبولوجيين بالزائف . وهذا التصور هو الذي دار حول ما عرف على تسميته شعبياً بـ( الهام )(1) .
أن تصور الهام في الفكر الشعبي للحضارمة يختلف تماماً عما كان عليه فكر العرب الجاهليين , ففي الحين الذي اعتقد فيه عرب الجاهلية أن الهام أو الهامة , طائر زعموا انه يخرج من رأسي القتيل الذي لم يؤخذ بثأره فيزقو عند قبره ويقول : اسقوني من دم قاتلي .. وفيه يقول ذو الأصبع العدواني في ذلك :
ياعمرو إلا تدع شتمي ومنقصي أضربك حتى تقول الهامة اسقوني .
(( فإذا اخذ بثأره طارت , ومن مزاعمهم أن ذلك الطائر يكون صغيرا ثم يكبر حتى يصير في قدر البوم ويسمونه ايضا الهام وانه يتوحش ويصيح ويوجد في الديار المعطلة الخالية من أهلها وحيث مصارع القتلى وأجداث الأموات ...)) (2) . أما عند الشحريين وربما الحضارمة عامة , فالهام كما يتصوره بعض كبار السن منهم صنف من الأفاعي الضخمة والتي كما يقال على رأسها جوهرة كأنها تاج على هام سلطان . وهذه الجوهرة بالنسبة للهام بمثابة عينها فلا تبصر إلا بها . كما يتصورها خيال الناس وكأنها ملكة لكل الحيات , فلا تسير إلا وبرفقتها عدد من الثعابين الصغيرة طولها شبر واحد أو أكثر قليل , يتولون حمايتها , وهذه الثعابين بمجرد إحساسها بقدوم خطر ما قد يداهم الملكة , تنطلق بسرعة قصوى وتقفز باتجاه الخطر كأنها سهم مارق يخترق جسد هذا الدخيل . هكذا تقول الأسطورة , وهذا يقودنا إلى ماذكره سترابو نقلاً عن ارتيميدورس عن هذه البلاد التي تنتج المر واللبان حيث زعم أن بها (( أفاعي حمراء داكنة اللون , طول الواحد منها شبر , تقفز إلى خصر الإنسان , وأنها إذا لدغت فان لدغتها غير قابلة للشفاء ))(3) , كما أن هيرودوت أبو التاريخ أشار إلى وجود أفاع طائرة في هذه الأرض وان كان وفقاً لأوصافه تلك فهي لا تتعدا وصفه للجراد .
وبعض الروايات تصور هذا الهام بمفرده من دون أي رفقة وأن الجوهرة التي على رأسه لا تقدر بثمن وهي تضئ في العتمة ، وان من يمتلكها يمكنه أن يحقق بها الكثير من المآرب لفاعليتها السحرية .
وتذهب الأسطورة أيضا إلى أن الهام إذا أراد الشرب من ( نهر , جدول ، ساقية ، بئر ، عين ) يعمد على نزع الجوهرة من رأسه كيلا تقع في الماء , ليعيدها بعد أن يشرب .
وهناك روايات تحكي إلى أن رجل من البدو استطاع بالحيلة الحصول على هذه الجوهرة حيث تسلق أحد الأشجار القريبة من عين ماء , يعتقد أن الهام يوردها غالبا , حاملاً معه طين رطبة مبلله , وهناك كمن للهام إلى أن أقبل عند حلول المساء وما أن نزع الجوهرة من رأسه للشرب حتى بدأ الرجل القابع أعلى الشجرة برمي الطين المبلل على الجوهرة من دون أن يحس الهام بذلك إلى أن اختفت وسط الطين وحينما فرغ الهام من شربه لم يجد جوهرته بالقرب منه والتي هي بمثابة حياته أو قل عينة التي يبصر بها , فما كان منه الا أن صاح صيحة عظيمة وأخذ يخبط بصورة عشوائية ساحقاً كل الذي يعترض طريقة ، ومن حسن حظ الرجل أنه لازال في أعلى الشجرة فلم يصيبه أي أثر من غضبه . وما أن ذهب الهام حتى نزل الرجل من الشجرة وأخذ الجوهرة من وسط الطين فكانت المصدر لغنائه وثرائه . وأسطورة الجوهرة في رأس هام نجدها كذلك في الأساطير الهندية وبصورة لا تختلف كثيراً عما هي عليه عندنا , وان كانت لها جذور عقائدية لدى الهنود (4). كما وجدت عند سكان جنوب برونيو بإندونيسيا. ويقول بليني انه حينما (( تكون الجوهرة في رأس الثعبان فأنه يجب ان يكون حياً عند قطع رأسه , وإلا فان الحجر لن يكون له أي فاعلية ))(5) .
وكثيراً ما أدخلت أسطورة الهام هذه في الأدب الشعبي الحضرمي , كما عمل على توظيفها الأدباء والشعراء الشعبيين في قصائدهم المتنوعة , ويمكن هنا أن نشير إلى قصيدة سعيد مرزوق والتي قيلت عام 1937م بعد معاهدة الاستشارة ووصول المستشار الإنجليزي الأول , ومن الواضح أن الشاعر يرمز بالهام ( الأفعى الضخم ) الانجليز , كما يرمز بالجوهرة إلى حضرموت , يقول الشاعر :
ياهام فك الجوهرة ياهام من قبل ماتطلع نفوس أهل الهوى عالجوهرة بايموتون
شليتها بالقهر يالـظلّـام باتلحق الآثام من ربك وباتطمر من الجنة إلى النار .
أو قول الشاعر الشعبي ناجي بن علي الحاج في احدى مساجلاته الشعرية :
ما دامنا نقرأ ونستخرا ونكتب بالقلم الجوهرة باجيبها لي معك يارأس هام .
أو قول الشاعر الشعبي عائض بلوعل :
يالهام قد شلوا عليك الجوهــرة مــن تحت يدك وايش عادك باتقـول
هذا الجزاء يومك رميت الهوبرة ونسيت ربعك والسبب من بن سلول
فكان رد الشاعر حسين بن حامد المحضار :
لي اخرج أدم هو قــعد في المحضرة ولــعاد فكـر في طــــلوعه والنــــــزول
درجوا له الفنجان وسط المعشرة قالوا سكت مالك ومال أهل الفضول .
وهناك بالطبع العديد من الشعراء لا نستطيع ذكر قصائدهم جميعا هنا ذكروا الهام وجوهرته .
اكتفي بالقدر .
_______________________________________
(1) هذا الموضوع مستل من كتاب بعنوان ( من الفولكلور الشحري دراسة ميدانية لجمع وتوثيق التراث الشعبي الحضرمي ) لكاتب السطور – مخطوط .
(2) انظر , موسوعة أساطير العرب ج1 ص334 .
(3) نقلاً عن كتاب تاريخ اليمن القديم لمحمد عبد القادر بافقيه ص52 .
(4) جاء في معجم الفولكلور للدكتور عبد الحميد يونس , عن الجوهرة السحرية MANI OR CHINTAMANI : (( الجوهرة السحرية التي حصل عليها الآلهة عند مخض المحيط كما جاء في العقائد الهندية , وهي الجوهرة الموجودة في رأس الكوبرا , وطبقاً لما جاء في الاتهارفا – فيدا – تعد الماني تميمة ضد أنواع كل الشرور , وهي بعينها الصاعقة التي استخدمها اندرا ضد فريترا , وهي قطعة من الزبرجد الشفاف لها ثمانية أوجه شديدة اللمعان , إلى حد تشع ضياء يحول ظلام الليل إلى نور النهار ( إلى أن قال ) والجوهرة التي توجد على رأس الكوبرا ( وهي تساوي في قيمتها كنوز سبعة ملوك ) لا يمكن اختفائها إلا عندما يلقى عليها روث البقرة )) . المرجع المذكور ص390 – 391 .
(5) المرجع السابق ص229 .