دراسة تاريخية لغوية في أسماء بعض المدن والأماكن
"صبيا" في اللغة الآرامية القديمة تعني مثنى ظبي
و"الخوخة" في اللغة الهيروغليفية تعني الممر
"الزهرة" كقبيلة وأرض وردت الإشارة إليها في النقوش بلفظ (سهرة)
علي مغربي الأهدل
• الحلقة الثانية
سبق وأن أشرنا في العدد الماضي أن الكثير من أسماء الأماكن أو الغالبية العظمى هي في صيغتها ومنطوقها كلمات سامية تنتمي إلى العربية الأقدم السابقة عن العربية المتأخرة وذكرنا من تلك الأسماء ( زبيد ، و الركب) التي وردت في النقوش الآرامية أسماء لملوك حكموا تلك القبائل خلال القرن الثامن قبل الميلاد وما بعده ، ومعروف لدى المؤرخين أن القبائل الآرامية واحدة من القبائل السامية التي هاجرت من جنوب غرب الجزيرة العربية باتجاه الشمال ، ولا شك أنها حملت معها هذه الأسماء من الوطن الأم الذي لا نشك في أنه منطقة تهامة وذلك خلال هجرتها التي يحددها الكثير من المؤرخين بـ 1500 سنة قبل ميلاد المسيح.(1)
وقبل هجرة هذه القبائل كانت لغتها أو لهجاتها على الأصح قد سادت لزمن كبير في المنطقة ، وحلت محل اللهجة الكنعانية وطغت عليها وهي لهجة قريبة منها ، وما يؤكد هذا إلى جانب احتفاظ منطقة تهامة بكثير من أسماء الأماكن والمناطق والجبال والأودية والأشجار بتلك اللهجات القديمة أيضاً تتطابق منطوق ومعاني كثير من الألفاظ الآرامية الشمالية مع مثيلاتها من الألفاظ الحية المستعملة في لهجات المنطقة إلى اليوم .
وكذلك احتفاظ اللهجة التهامية بكثير من مميزات اللهجة الآرامية واللهجات السامية الأقدم(2) ومن هذه المميزات التي اختصت بها اللهجة الآرامية وجود أداة التعريف الألف أو المد في أواخر الأسماء(3) وهذه الألف التي نجدها في الآرامية في مثل ( بيتا ، و كلبا) أي ( البيت ، والكلب) هي في الأصل (و) تلحق بآخر الكلمة مثل الواو المستعملة في اللهجة التهامية للدلالة على التنكير في الأسماء إلى اليوم مثل ( بيتو ، وكلبو) وهي في الأصل أداة تعريف قديمة (4) ولكنها قلبت في مرحلة من المراحل إلى مد يلحق آخر الكلمة في الآرامية ومن هذه الأسماء نجد في تهامة مثلاً :
ــ أسماء الأماكن ( صبيا ، الكدرا، الشعرا، عكوى)( جبلي عكوة أو العكوتين) وإذا حاولنا التعرف مثلاً على تاريخ منطقة صبيا نجد أن المؤرخين يذكرون أن صبيا الجديدة اختطها علي بن محمد الإدريسي ، وأنه إلى الشرق منها بنحو ثلاثة كيلو توجد ( صبيا القديمة) وأنه كان يطلق عليها أو على موقعها اسم ( أبو دنقور) وأن الذي أسسها هو دريب بن مهارش الخواجي ولكننا لا نرى أي تطرق حقيقة للاسم ( صبيا) وحتى إن وجد فلن يعدو التخريجات المعروفة التي اعتادها المؤرخون عند البحث في تاريخ الأماكن والمدن والمناطق القديمة.
ولكن من خلال دراسة المفردة لغوياً وتحليلها ومقارنتها باللغات القديمة وببعض الكتابات والدراسات التي قام بها مختصون في هذا المجال نجد أن الاسم (صبيا) وبغض النظر عن تاريخ المدينة القديمة هو اسم قديم ينتمي إلى اللغة الآرامية وذلك من حيث صيغة الاسم التركيبية واللفظية ، ومن حيث المعنى الذي يعود إلى اللغات القديمة السابقة للعربية المتأخرة ( الفصحى) واللهجات المتصلة بها .
فمن حيث الصيغة نجده كالكثير من غيره من أسماء الأماكن التي تنتمي إلى اللغة الآرامية القديمة ، وذلك بوجود لاحقة (المد) في آخر الكلمة والتي كانت تفيد في مرحلة سابقة أداة التعريف ، أي أن المد الذي في آخر الاسم (صبيا) هو أداة تعريف في اللغة الآرامية(4)أيأنأصل الكلمة بعد تجريدها من اللاحقة الزائدة ( المد) هو (صبي) وصبي في اللغة السامية القديمة ومنها اللغة اليمنية القديمة لغة النقوش تعني (ظبي) (5) في اللغة العربية المتأخرة ، أي أن صيغة اللفظ ( صبي) تمثل مرحلة أقدم ويتأكد هذا من خلال أمرين :
الأول :أن الكثير من الكلمات التي وردت في الفصحى واللهجات المعاصرة بحرف ( الضاد) نجدها بنفس المعنى في اللغات الأقدم ولكن بحرف (الصاد) مثل كلمة (أرص) في اللغة الأكدية تعني ( أرض) (6) ولا زالت كلمة( أرصه ) في تهامة تطلق على بقعة الأرض من البيت ، وكذلك (صل) التي تعني ظل في اللغة اليمنية القديمة هي ظل في الفصحى بإبدال الضاد المنقلبة عن الصاد إلى (ظاء) لقرب المخرج ، وكذلك (بضع) بمعنى قطع في الفصحى نجدها في تهامة تنطق (فصع) بإبدال الباء فاء لأن الفاء صوت لاحق في التطور للباء.
الثاني : أن القرية الواقعة على الضفة الجنوبية للوادي والمقابلة لصبيا تماماً يطلق عليها (الظبية) و (ضبيا) إلى اليوم ، وهناك من يرى أن الإشارة إلى القريتين وردت في العبرية بصيغة المثنى ( صبييم )(7) أي الظبيتين وما حصل هو أن أحد هاتين القريتين عُرِبت في المراحل اللاحقة وهي قرية ( ضبيا) الواقعة إلى الجنوب من الوادي وذلك بإبدال الصاد ضاداً للتمييز بينهما بينما ظلت القرية أو المنطقة الواقعة إلى الشمال منها محتفظة بالصيغة الآرامية وهناك أمر ثالث يدعم هذا الرأي وهو أنه في تهامة عموماً وفي منطقة صبيا خصوصاً يشيع بكثرة تسمية قريتين متجاورتين باسم واحد إما بصيغة المثنى أو بقولهم قرية كذا (العليا والسفلى ) وكذلك كقولهم قرية (الجدين) التي تقع إلى الغرب من صبيا و كذلك قرية السلامتين العليا والسفلى والعكوتين (جبال عكوة) وغيرهما ، ومن خلال هذا العرض يتضح أن الاسم ( صبيا) هو اسم أرامي قديم متصل بالمنطقة منذ القدم سواءً كانت مدينة قديمة أو قرية فليس من الإنصاف نسبة الأسماء القديمة للمدن والمناطق إلى مؤسسين من العصر الحديث فهناك الكثير من أسماء المدن والمناطق هي أسماء بلغات قديمة فمثلاً " الخوخة " نجدها في اللغة الهيروغليفية تعني الممر.
•
مدينة الزهرة :
وتقع على مجرى وادي مور وهي مركز مديرية الزهرة والاسم حالياً يطلق على المدينة والمنطقة التابعة لها ، وعند البحث عن تاريخ هذه المدينة الواقعة في أهم أودية اليمن (مور) نجد أن المؤرخين كعادتهم يبحثون عن شخصية شهيرة ارتبطت بهذا الاسم أو المكان ثم ينسبونها إليه ويزعمون أنه أسسها ، ولا يقف الأمر بالنسبة لمدينة الزهرة عند مسالة الاختطاط والتأسيس فحسب بل أن المؤسس وهو الشريف حمود بن محمد أحمد المشهور بأبي مسمار هو الذي أطلق عليها اسم الزهرة نسبة إلى كوكب الزهرة (
وذلك سنة (1171هـ ) فهل لهذا الاسم ارتباط بهذه المنطقة التهامية في التاريخ القديم أمأن الاسم الذي أطلق على هذا المكان هو حديث فعلاً لمعرفة هذا الأمر علينا العودة إلى المصادر التاريخية وفي مقدمتها النقوش وإلى المقارنات اللغوية والمعتقدات القديمة لدى شعوب جنوب غرب الجزيرة العربية .
• الاسم في النقوش اليمنية:
ورد هذا الاسم في النقوش اليمنية بصيغة ( سهرة) منكر ، وبصيغة ( السهرة) معرف ، كما ورد الاسم بصيغة الجمع ( سواهرن) ليدل على أبناء القبيلة ، بينما يدل في صيغة (سهرة ، والسهرة) على القبيلة والأرض معاً فمن النقوش التي تشير إلى الصيغتين معاً ( سواهرن ، وسهرتن) أي إلى أبناء القبيلة وإلى القبيلة والأرض معاً نقش إرياني /12 ، وهو نقش طويل يتحدث عن حرب طويلة خاضها الملك "شعرم أوتر" في القرن الرابع الميلادي وهو ملك سبأ وذي ريدان آنذاك ضد الأحباش ومن كان معهم من قبيلة السواهر وصاحب النقش يذكر فيما يذكر :
يوم / هو صتهو/مرأهو/شعرم/أوتر / ملك / سبأ/ وذ ريدان/ لشرح / وقرن/ بأوثن / شعبن/ حشدم/ بضر / ضررو/ أحبشن/ وذكون/ كونهمو/ بن / سوهرن/ وخولن.
ومعنى ذلك أن صاحب النقش يقول:
يوم أصدر سيده الملك شعرم أوتر ملك سبأ وذي ريدان مرسوماً يقضي بتكليفه لقيادة القوات المرابطة والمقاومة عند حدود حاشد بسبب الحرب التي شنها الأحباش ومن كان معهم من قبيلة السواهر وقبيلة خولان ثم يستمر صاحب النقش في الحديث إلى أن يقول :
ويحربو/ أزدهمو/ بنجد / محربن / بحيرن / ذسهرتن.
أي يذكر أنه نازل قواتهم (أزدهمو) أي (أسدهم) بمنطقة نجد المحراب ( نجد / محربن) في منازل ذي سهرة.
ويذكر الكثير من الدارسين أن قبيلة (ذي سهرة) كانت تستوطن مدينة الزهرة وما حولها وتمتد شمالاً حتى جيزان ، وتذكر في النقوش أيضاً قبيلة ( سهرة ليه) أي زهرة ليه ، وليه وادي بمنطقة جيزان إلى الشمال من وادي تعشر على مقربة من مدينة جيزان وقد حدد (إلبرت جام ) منطقة قبائل السهرة في إحدى خرائطه حيث تبدأ من جنوب جيزان مباشرة إلى وادي مور حيث تبدأ أراضي عك (9).
وكانت قبيلة ذي سهرة تستوطن أراضي السهرة من تهامة وهي قبيلة يمنية شديدة البأس قوية المراس كان لها حروب طويلة وكثيرة ضد ملوك سبأ وذي ريدان ، كما يرى بعض الدارسين أن قبيلة ( ذي سهرة) كانت تستوطن مدينة ( الزهرة) وما حولها وأن الزهرة هي مركز هذه القبيلة التي تمتد إلى جيزان شمالاً (10).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) صليبي ، كمال ، التورات جاءت من جنوب الجزيرة العربية.
2) انظر : الأهدل ، علي مغربي ، لغة النقوش المسنديه في الفصحى واللهجات اليمنية تهامة أنموذجاً.
3) المخلافي، علي محمد ردمان ، المنسوب إلى اللهجات اليمنية في كتب التراث العربي.
4) الأهدل ، علي مغربي ، لغة النقوش.
5) أ . ف، ل، بيستون، ،وآخرون ، المعجم السبئي.
6)
7) صليبي ، كمال ، التورات جاءت من جنوب الجزيرة العربية.
9) الارياني ، مطهر علي ، نقوش مسنديه وتعليقات ، ص 116، ص 346.
10) المصدر نفسه.