إن البحث في تاريخ تهامة القديم وبخاصة تاريخ فترة ما قبل الإسلام بوجه عام وعصور ما قبل الميلاد بوجه خاص يعد أمراً صعباً وعسيراً ومستحيلاً في بعض الأحيان ، وذلك لعدة أسباب منها غياب الدراسات التاريخية العلمية وندرة المهتمين بتاريخ المنطقة من المتخصصين ممن يمتلكون القدرة على التحليل والمقارنة والنقد الداخلي لبعض الإشارات التاريخية واللغوية التي قد تساعد على إبراز جوانب جديدة من التاريخ .
كما أن القراءة التقليدية التي تسلم بكل ما أورده المؤرخون الإخباريون كما أن مؤرخي تاريخ اليمن الإسلامي ساعد أيضاً على تشويه الكثير من الحقائق التاريخية وتزييفها وهم المؤرخون الذين وقفوا أمام مدن ومناطق يجهلون تاريخها فتخيلوا لها جذوراً تاريخية بنسبتها إلى أشخاص وقبائل كثيراً ما تنتهي بالمؤسس أو بالجد الأعلى للقبائل اليمنية القحطانية ( سبأ بن يشجب) .
والعائق الأكبر أمام كتابة تاريخ تهامة بما تحويه من مدن وآثار ومناطق ومسميات ضاربه بجذورها في التاريخ هو انعدام المصادر التي تتحدث عن المنطقة في التاريخ القديم ، وغياب الكشوفات الأثرية وبعثات التنقيب التي قد تعين على استنطاق المكان والغوص في الزمان .
وفي ضوء المتاح من الإشارات التاريخية المتعلقة بالمنطقة ، يجب علينا إعادة القراءة لهذه المادة المتوفرة على ضآلتها لوضع الخيوط الأولى التي قد تجد مستقبلاً من يصلها بالحقيقة ، ولا يمكن الوصول أو الاقتراب من التاريخ القديم للمنطقة في ظل غياب المصادر دون الاعتماد على الدراسة اللغوية لأسماء الأماكن ، لان أسماء الأماكن ضرب من علم الآثار فدراسة أسماء الأماكن تقدم نفس الخدمة التي يقدمها علم الآثار مع فارق واحد ، هو أن الاكتشافات الأثرية تظل خرساء ، ما لم تتضمن كتابات نقشيه ، في حين أن أسماء الأماكن ناطقة وبنوع اللغة التي انبثقت عنها (1) لأن التغيير الذي ينال هذه الأسماء يتم ببطء وعلى فترات زمنية متباعدة ، بعكس التغيير الذي يصيب ملامح وجه الأرض.
ولهذا فالكثير من أسماء المدن والقرى والأودية والجبال والمناطق وحتى الأشجار في تهامة هي أسماء بلغات سامية وحامية قديمة جداً لا يعرف معناها الذي سميت من أجله وهذا ما جعل الكثير من علماء اللغة عموماً يسدون هذا الباب بقولهم " الأسماء لا تعلل " في حين سده البعض تاريخياً بنسبة الكثير من المناطق إلى أجداد ومؤسسين ومختطين وكأن هذه المناطق لم تكن تحمل أسماء قبل وصول بعضهم إليها وإذا استعرضنا بعض المسميات في تهامة لمناطق قديمة مثلاً :
( تهامة ، زبيد ، حيس، الركب ، المخا ، الخوخة ، موزع ، رمان ، جاح ، ذوأل ، الكدرا ، الكدن ، المراوعة ، المغلاف ، سهام ، قناوص ، اللحية ، الصليف ، مور ، الزهرة ، الربصة ، حرض ، المهجم ، جيزان ، ضمد ، بيش ، صبيا ، وأخيراً الحديدة) وغيرها الآلاف من أسماء الأماكن والقبائل.
سنجد أنه من الصعب علينا معرفة معاني هذه الأسماء ودلالاتها ، وذلك لسبب واحد قد لا ينتبه إليه الكثير وهو أن هذه الأسماء الجغرافية هي أسماء انبثقت عن لغات سامية قديمة منها ما هو هيروغليفي ، ومنها ما هو كنعاني ، ومنها ما هو أرامي ، ومنها ما هو عربي قديم سابق للفصحى ومنها ما هو عربي متأخر لأن جميع هذه اللغات القديمة انبثقت من هذه الأرض كما تشير المقارنات اللغوية ، وهي في الأصل لهجات قديمة متقاربة تعاقبت عبر مراحل زمنية مختلفة أقدمها اللغة الحامية ، ثم الكنعانية أو العكية التي تلاشت لتحل محلها الآرامية ، ثم العربية القديمة والدليل على هذا مثلاً :
• الاسم زبيد ، وركب
زبيد بفتح أوله وكسر ثانيه وسكون الياء المثناة من تحت ودال مهملة ، اسم لأحد أشهر أودية اليمن ينسبه الكثير من المؤرخين كعادتهم إلى زبيد الأصغر بن زمعة بن سلمة بن سعد بن زبيد الأكبر والذي ينتهي نسبه إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان جد أهل اليمن (2) .
ويذكر المؤرخون أن موقع زبيد قبل إنشائها كان أرضاً زراعية كثيرة الأشجار يرعى فيها الرعاة ويسقون دوابهم من بئر قديمة ، وكان حول هذه الأرض قصور يسكنها قوم من بني كليب ومهلهل (3)
وحول القصور توجد قرى صغيرة متناثرة من أهمها الحصيب والمنامة و واسط والنقير و جيبجر وساكنوها الأشاعر .
وأن الخليفة العباسي المأمون عندما أبلغه عامله على اليمن " إبراهيم الإفريقي الشيباني " بخروج قبليتي الأشاعر وعك عن الطاعة ، فأرسل حملة بقيادة محمد بن عبدالله بن زياد لاسترداد تهامة وأوصاه أن يحدث له مدينة في وادي زبيد من بلاد الأشاعر ، وبعد أن وصل إليها بن زياد اختط مدينة زبيد يوم الاثنين الرابع من شهر شعبان من سنة 204هـ الموافق 23/1/820م (4) ومنذ ذلك التاريخ أصبحت زبيد مدينة وعاصمة لابن زياد ، ولا ندري ما هي الإمكانية التي كان يمتلكها بن زياد ليقيم في 23/1/820م مدينة كاملة ويمصرها بعد أن كانت غابة وقرى صغيرة متناثرة ، ولا ندري أين ذهبت تلك القصور القائمة التي كان يسكنها قوم كليب ومهلهل ، ولا علام يدل وجودها ، وفي أي زمن أنشئت ، ولماذا يصر المؤرخون على أن ابن زياد اختط المدنية وأنشأها ولم ينشئ مثلاً داراً أو مقراً لحكومته على أطلال مدينة أو منطقة أسبق ولا يهمنا هنا ما إذا كانت زبيد المدينة بنيت على مدينة أقدم أم لا فهذا سيكشفه علم الآثار و التنقيبات الأثرية .
ما يهمنا هنا هو نسبة زبيد إلى مؤسس الوادي زبيد الأصغر بن زمعة السبئي وكذلك الحُصيب الذي ينسبه المؤرخون أيضاً إلى الحُصيب بن عبد شمس ينتهي نسبه كذلك إلى يشجب بن يعرب بن قحطان وكان هذا يسكن أسفل الوادي (5)
والذي يمكن ملاحظته بوضوح أن سلسلة نسب زبيد أو أسماء أبائه أسماء أعلام عربية مثل زمعة ، سلمة ، سعد ، وأنها مخالفة للمسميات التي ترد في لغة النقوش اليمنية التي كانت سائدة في الزمن القديم كما تدل النقوش وهنا يمكن القول أن القصد من هذه السلسلة هو صبغها بطابع الأقدمية وأنها قديمة جداً كما يفهم من قصد المؤرخين، فإذا سلمنا بذلك وهو نسبة هذه الأسماء إلى أعلام سبئية قديمة فهذا التسليم يسقُط بمقارنة هذه الأسماء بأسماء الأعلام في الفترات الزمنية للدولة السبئية في مختلف المراحل وذلك من خلال عرضها على النقوش التي تعتبر من أصدق الوثائق كما أن الاسم الأول ( زبيد ، حُصيب ) وهي المتأخرة غامضة المعنى ولا نعرف ما دلالتها بعكس زمعة ، وسعد ، و سلمة التي تنتمي إلى اللغة السامية أو العربية المتأخرة.
وإذا قلنا أن النصف الأول من السلسلة ينتمي إلى العربية المتأخرة المعاصرة لفترة الجاهلية بما فيها الاسم زبيد فلماذا لا نجد هذا الاسم من أسماء الأعلام المتداولة في ثقافة المجتمع لأنه سيكون لفظ عربي مفهوم المعنى والدلالة .
وكيف نفسر وجوده في اللغة الآرامية التي نزح أهلها الآراميون من غرب الجزيرة العربية من منطقة لم يحددها المؤرخون بعد في حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد (6) باتجاه سورية ومنطقة الشام .
الغريب والأمر الذي يزيدنا ثقة في أن الاسم قديم وينتمي للغة الآرامية وربما إلى ما قبلها ، أنه ليس الاسم زبيد وحده الذي وجد في نقوش اللهجة الآرامية العتيقة بل وجد أيضاً الاسم ( ركب والمعروف أن الركب منطقة تابعة لزبيد وغير بعيدة عنها ومن أقدم هذه الآثار هي النقوش التي وجدت في نواحٍ مختلفة من آسيا الصغرى ، وفلسطين ومصر وبلاد العرب من إفريقيا الشمالية وتنسب هذه النقوش التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد إلى الملوك ( بنامو ، و بر ركب) ، وبر في اللغة الآرامية تعني ( ابن) ولا زالت تنطق بهذه الصيغة في منطقة جيزان فـ ( بر ركب) تعني ابن ركب ومن هذه النقوش نقش ( بر ركب ملك شمأل )
مبنى النقش بالحروف العربية :
1- أنه بر ركب .
2- بر بنمو ملك شم .
3- ال عبد تجلت بليسرمرا .
4- ربعي ارقا بصدق أبي .
5- وبصدقي هو شبني مراي ركبال .
6- ومراى تجلت بليسر على كرسا .
7- أبي وبيت أبي عمل من كل ورصت بجلجل .
8- مراي ملك أشور ... الخ.
ترجمت هذا الجزء من نقش بر ركب هو :
1- أنا بر (ابن) ركب .
2- بن بنامو ملك شمأل .
3- عبد لتجلت يلئيسر سيد
4- نواحي المعمورة الأربعة أو سيد ربعي من أجل صدق أبي .
5- وصدقي أجلسني سيدي ركب إل.
6- وسيدي تجلت بليسر على عرش أبي .
7- وبيت أبي يعمل لرفع مجد الملك أكثر من غيرنا وكنت أسير (ورصت) أمام عربة .
8- سيدي ملك أشور . (7)
هذا النقش كشف في تل زنجيرلو سنة 1891م في قرية بين أنطاكية ومرعش في خرائب قصر الملك بن ركب الذي أجلسه على العرش قومه وسيده ركب إل وفي هذا النفش وجدت صورة ملك أشور قابضاً بيده على زهرة شجر النبق ( السدر) إشارة للسيطرة العليا .
ولغة النقش تمثل لهجة أرامية قديمة في الألفاظ والأسلوب كما تدل على أنها متأثرة باللغة الكنعانية والعبرية وهذه النقوش جاءت بعد أن قطعت القبائل الآرامية مرحلة كبيرة من طور الحضارة والعمران (
.
ومن خلال هذا النقش يتضح لنا أن الاسم ( ركب ، وركب إل ) كاسم علم متوارث في ثقافة القبائل الآرامية التي هاجرت من تهامة منذ حوالي 1500 سنة قبل الميلاد أو أكثر حاملة معها هذا الاسم الذي مازالت تحتفظ به تهامة في جغرافيتها إلى اليوم .
كما نجد الاسم ( بنامو) مذكر الاسم ( منامة) بإبدال الميم باءاً مثل بكة ومكة ، وصرب وصرم ، وصرم أي قطع وغيرها مما يحدث فيه الإبدال وهو قريب من الاسم ( منامة) إحدى القرى التي كانت حول موقع زبيد المدينة .
أما الاسم زبيد فنجده أيضاً في عدد من النقوش الآرامية مثل :
نقش يوليس
مبنى النقش.
1- صلما دنه يوليس أورليس .
2- زبيدا بر مقيمو بر زبيدا عشتور .
3- بيدا دي اقيم له تجرا بنو شيرتا .
4- دي نحت عمه لأ لجاشيا ليقره بديل .
5- دي شفر لهون ييرح شنة .
ترجمة النقش :
1- هذا تمثال يوليس أورليس .
2- زبيد بن مقيمو بن زبيدا عشتور .
3- ييدا الذي أقامة له تجار القافلة بنو شيرتا .
4- التي وردت منه إلى الجاشيا لتعظيمه لأنه .
5- أحسن لهم في شهر نيسان سنة 558 (9).
كما ورد الاسم في نقش آخر ينسب لأذينه ملك الملوك الذي أقام له تمثالاً أبناء ( زبيدا رب حيلا) أي أبناء زبيد قائد الخيالة الأكبر وإلى جانب الأسماء المذكورة تكتض النقوش الآرامية بمفردات لا زالت تستعمل في إلى اليوم .
ومن هنا يتضح أن الاسم زبيد وركب وأشور الذي ما زال من أسماء الأماكن في تهامة ، هي أسماء أعلام سامية(أرامية) قديمة احتفظت بها المنطقة حتى بعد هجرة القبائل الآرامية وغيرها من الشعوب السامية القديمة وأنها كانت شائعة ومستعمله ذات يوم ضمن أسماء الأعلام القديمة التي نفقد دلالتها اليوم وقد أطلقت على هذه الأماكن نسبة إلى أشخاص ساميين قدماء عاشوا في المنطقة في العصور القديمة وليس إلى زمعة ، وسعد،وسلمة ، أو سبأ أو غيرهم مما افترضه المؤرخون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الصليبي، كمال ، التوراة جاءت من جزيرة العرب ،ص60.
2- الحداد ، عبدالسلام صالح ، الاستحكامات الحربية بمدينة زبيد ، ص24.
3- ابن المجاور ، صفة بلاد اليمن ، ص 80.
4- الحداد ، الاستحكامات ، ص26.
5- الهمداني ، أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب ، الإكليل ج1، تحقيق : محمد علي الأكوع ، منشورات المدنية ، 1986م ، ط3،صـــ67،68 .
6- إسرائيل ، ولنفسون ، تاريخ اللغات السامية ، ص116.
7- المصدر نفسه ، ص 120 ، 121 .
8- المصدر نفسه .
9- نفسه .