سبق وان نشرت هذا المقال في قسم المقالات . ولكن فكرت ان يكون في هذا القسم هو المناسب . وعليه ارجو من الاخوة المشرفين حذف الموضوع من قسم المقالات لاني لا املك الصلاحية للقيام بذلك وتقبلوا تحياتي .
الغاوي الشحري الدلالة والجذور
نشر هذا المقال في مجلة ضبضب العدد 7 يناير – يونيو 2011م
مجلة نصف سنوية تصدر عن نقابة مكتب الهيئة العامة للاراضي والمساحة
والتخطيط العمراني م / الشحر
(( لفت انتباهي اثناء مطالعتي مجلة سعاد العدد 9
مقال كتبه احدى الكتاب بعنوان سوبان إله البحر , وبقدر ماشدني المقال (
ولربما لي وقفة معه مستقبلاً ) بقدر ماجذبني اسم كاتبه او على الأرجح مااستعاره من
اسم , حيث دون مقاله باسم بن غاوي الشحري . الأمر الذي جعلني أفتش في وجدان ذاكرتي
واستلهم تصوراتنا نحن الشحريين حول شخصية خرافية ورثناها , تناقلتها الشفاه ودارت
حولها القصص والروايات , ألا وهي شخصية ( الغاوي ) , تلك الشخصية التي لاتوجد إلا
في البراري والقفار مقارنة بشخصيات غيبية اخرى تجوب الشوارع والطرقات كشخصيتي ام
السلاسل وام الصبيان على سبيل المثال ,
ولعل وادي سمعون الواقع جهة الشمال الغربي من مدينة الشحر من أكثر الأماكن شهرة
التي عُرفت بأنها مركز تواجد ( الغاوي ) وفي مسياله دارت عدد من تلك القصص
والخرافات , ولنا في هذا المقال المتواضع ان نسلط ولو قليلاً من الضوء حول هذه
الشخصية التي ارتبطت بمخياتنا الشعبية وارتبطنا بها كعنصر من مكونات ثقافتنا الشعبية المتوارثة , وبعيدا عن المنطلق
الديني لهذا البعد الميتافيزيقي فان تناولنا لهذا الموضوع سينصب على تحديد هويته
وملامحه كما هي في مخيلة الناس وما ارتبط بهذه الشخصية من دلالات او مقاربات في
ادبنا العربي عامة .
فالغاوي كما ارتبط بتصورنا
الجمعي شخصية تأتي الناس على هيئة البشر حينما يكونوا سائرين ولوحدهم في وادي
سمعون خاصة , وغالباً مايكون بهيئة رجل طاعن في السن , يتكئ على عكاز او يحمله معه
, رث الثياب , تميل ملامحه العامة للبداوة منها لاهل الحضر والمدن , حيث يعترض
هؤلاء الناس ويستهويهم بأن يصور لهم ان الأحجار التي امامهم ذهب يلمع , او ان يري
السائر حزمة نقود امامه وكلما دنا منها لالتقاطها كلما ابتعدت عنه قليلاً , او ان
هناك قصرا شامخ البنيان عليه فتيات حسان ينادين باستغواء هذا القادم البعيد ,
وكلما دنا من ذلك القصر كلما ناء عنه قليلا , وهكذا يستمر الاستغواء الى ان يجد
هذا السائر نفسه في اماكن مقفرة موحشة حيث يهلكه هذا الغاوي او تهلكه الضواري والسباع
. وهناك تصور اخر للغاوي حمل فكر مغاير حيث ارتبط الغاوي بتحقيقه للاماني , ولعل
في هذه الطرفة المتداولة مايشير الى ذلك , فمن الطرائف المحلية
والتي توارثناها عمن سبقونا أن رجلاً من اهالي الشحر وبينما كان سائراً ذات يوم
لوحده بمسيال سمعون تحديدا , حدث وان صادف هذا الغاوي متنكراً بثياب رثه بالية ,
وفي روايات اخرى ثياب بدوية , دون أن يعرفه هذا الرجل ، فلما اقترب منه الغاوي أخذ
يخاطبه وبلكنة بدوية قائلاً : ( اتمن ) ؟ بمعنى : ماذا تتمنى ؟ وكان هذا الرجل (
الحضري ) يظن انه يسأله : ( أنت من ) أي من تكون ؟ فيجيبه الرجل باعتزاز : انا
فلان بن فلان . فيكرر عليه قوله ( اتمن ) , ويكرر الرجل إجابته , إلى أن ضاق
الغاوي في المرة الثالثة , فأنصرف عنه ، وبهذا أضاع الرجل على نفسه فرصة ثمينة
لاتتحقق كما يقال الا مرة واحدة في العمر , فلو كان قد طلب شيئاً ما لتحقق له ذلك
على الفور . ونحن هنا وعند تحليلنا لمجمل التصورات ودلالاتها حول شخصية هذا الغاوي
وهويته كما هي في وعينا المتوارث , نجد ان هناك تنوع في تحديدها بين من اعتبر الغاوي
كائن خرافي لاوجود له سوى في وعي وخيال معتقديه , وبين من تصوره كواحد من الجن
والشياطين , واخرين نظروا إليه ككائن يميل الى جنس السعالى والغيلان وهي اجناس
اختلف فيها , فيمن عدها من الجن , وبين من نظر اليها ككائنات مستقلة بذاتها ,
وادبنا العربي حافل بالعديد من القصص والروايات التي تدور حول الغيلان ( الغول )
والسعلاة (1).
وفي تصوراتنا ايضا نجد البعض يربط او بمعنى ادق يخلط بين هذه الشخصية
وشخصية اخرى شهيرة هي شخصية الخضر عليه السلام التي ورد ذكرها في القرآن الكريم . ولعل في
تلك الطرفة السابقة مامن شأنه ان ادى لتداخل الشخصيتين السابقتين ( الغاوي والخضر
) حيث ارتبط الغاوي بتحقيق الأماني تماماً كشخصية الخضر في ( مخيلتنا الشعبية خاصة
) والتي ارتبطت كذلك بتحقيق الأماني ووهب مايعرف بالخاتم السحري لمن يصادفه من
البشر , مثل هذا التصور والعلاقة التي افترضناها مسبقاً بين الخضر والغاوي محقق
الأماني خاصة , يمكن ان نجد بعض اشكالها فيماورد على سبيل المثال في كتاب المشرع
الروي لمؤلفه محمد بن ابي بكر الشلي وذلك في ترجمته للشيخ عبد الرحمن بن محمد مولى
الدويلة حيث ذكر فيها : (( وقال بعض تلاميذه أود أن ألقى الخضر واعقد معه الاخوة
فقال سوف تنال ذلك , قال فلقيني الخضر في صورة بدوي كانت بينه وبيني معرفة فعقد
معي الاخوة ثم غاب وشممت الرائحة الطيبة فتعجبت من ذلك فأخبرت الشيخ بذلك , فقال
ذلك الخضر ثم لقيت البدوي فسألته فقال مارأيتك من كذا )) (2) , وجاء في
مخطوطة باحسن , عبد الله , ان الخضر عليه السلام كثيراً مايرى بمسجد باهارون
بالشحر , وكان المسجد انذاك خارج السور مطل على مسيال سمعون(3) . ولعل في
الإتباع والانقياد هو ماقارب بين الشخصيتين , مع اختلاف بيّن , فاحدهما يُتّبع
للهداية والرشاد , والآخر للغواية والضلال . فعن الخضر وبالرغم من عدم ذكر اسمه
صراحة بالقرآن , وانما كما عبر عنه في
قوله تعالى : (( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا
وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى
أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ
خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا
وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ
لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) )) (4) اما الغاوي
فيتبع للغواية والضلال ولعل من هنا جاءت تسميته هذه , قال تعالى في سورة الاعراف :
(( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿175﴾ ))(5) وفي سورة الحجر (( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿42﴾ )) (6) .
ومن المفارقة
ان نجد ان لفظة الغاوي تلك في بعض تصريفاتها المرتبطة بلهجتنا الحضرمية , تحمل
دلالات مناقضة للغواية والضلال فإلى اليوم
نجد ان بعض البدو يستخدم لفظة (
التغوي ) بمعنى الهداية والمقدرة على تجاوز المخاطر ان وجدت , فيقال على سبيل
المثال للشاب : هل ( بتغوى ) إذا ذهبت
هناك ليلا او لوحدك ؟ , بمعنى هل ستهتدى على الطريق الصحيح وتملك الشجاعة للتعامل
مع اي خطر محتمل ام انك ستظل وتضيع ؟ . الا ان ارتباط الغاوي بالغواية والضلال اشد
واعمق في تصورنا الشعبي وهو تصور استعضنا به ليحل بدلاً عن الغول والسعلان ككائنات
ليس لها وجود يذكر في وعينا الشعبي خاصة , وفي بعض البلدان يطلق على الغاوي باسم
الغدار , وعن هذا الغدار فكما جاء بمعجم الفولكلور للدكتور عبد الحميد يونس انه :
(( احد الجان الذين كانوا يوجدون في صعيد مصر واليمن ويغوون البشر ويعذبونهم او
يفزعونهم ثم يتركونهم , ويقال أنهم من نسل ابليس وزوجته , وقد خرجوا من بيضة ربما
كانت البيضة الكونية )) (7). ويقارب الغاوي في
الفكر الهندي ماعرف بالييخ والييخ YEKSH
كما جاء عنه في معجم الفولكلور على سبيل المثال (( شيطان
ساخر في شكل حيوان اصغر من القط , وداكن اللون , ويرتدي قلنسوة يتصدى للمسافرين
ويجعلهم يضلون الطريق .... ويستطيع الييخ ان يتشكل في اي صورة وان يظهر في صورة
الإنسان , والقلنسوة تشبه الصدفة وتجعل من يرتديها يختفي عن الأنظار ... )) (Cool .
وللمغنية ( صباح )
اغنية عذبة جميلة حملت اسم الغاوي , تردد فيها :
الغاوي
بينقط على طاقيته تسلم لي
عينه وعافــيته . ))
_____________________________________________________________
الهوامش والمصادر
(1) انظر على سبيل المثال الحيوان للجاحظ ج6 ص158 – 207 , موسوعة أساطير العرب
ودلالاتها ج2 ص13- 21 , قاموس الانثروبولوجيا ص397 , معجم الفولكلور ص341 .
(2) انظر المشرع الروي في مناقب السادة الكرام ال ابي علوي ,
محمد بن ابي بكر الشلي باعلوي 2 / 330 .
(3) نشر النفحات
المسكية في اخبار سعاد المحمية عبد الله محمد باحسن ( مخطوط ) .
(4) سورة
الكهف الآيات 65 – 70 .
(5) سورة الأعراف
الآية 175 .
(6) سورة الحجر الآية
42 .
(7) انظر معجم
الفولكلور عبد الحميد يونس ص341 .
(Cool المرجع السابق ص441 .
انور حسن السكوتي