المعري المحب لمدينة بغداد بالرغم من قصر المدة التي عاشها فيها والتي لا تزيد على السنتين والتي كانت بدايتها حضوره لمجلس عزاء الشريف الطاهر وإلقاؤه قصيدة من غرر قصائده ارتجالا في رثاء الطاهر مما جلب انتباه ابنيه الشريفين الرضي والمرتضى وهما ما هما عليه من أدب وثقافة وشعر فيذهبان إليه متسائلين: لعلك أبا العلاء المعري؟ وكانت شهرته قد تجاوزت المعرة وبلاد الشام نحو بغداد عاصمة العلم والأدب والشعر، فيكرمان وفادته، شاءت النهاية نهاية حياته في بغداد أن تكون ـ كذلك ـ في مجلس الشريف المرتضى فيرد ذكر المتنبي فينقص المرتضى من قدره ولأن المعري لا يقبل التدليس والمداجاة يدافع عن المتنبي قائلا :لو لم يكن للمتنبي من فضل لكفاه فخرا قوله : لك يا منازل في القلوب منازل
فعدها المرتضى تعريضا به فأمر به فسحب من المجلس مهانا لان ما استشهد به المعري إنما هو عجز من قصيدة رائعة شائعة يرد فيها هذا البيت :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي باني كامل
ترى هل كان المعري يقصد التعريض بالمرتضى أم انه استشهد بعجز البيت ليشير إلى قصيدة المتنبي العصماء تلك .؟ وهل كان المرتضى محقا في تفسيره وتأويله لقولة المعري أم إنها جاءت رمية من غير رام .؟
كانت هذه الاهانة التي لحقت بالمعري وسحبه من مجلس الشريف المرتضى مذلا مهانا خاتمة لعلاقته مع بغداد إذ أزمع مع نفسه ووطنها على الرحيل حتى إذا غادرها في الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة 400 هـ كان يمني النفس بلقاء أمه تعويضا عن الم مغادرة بغداد هذا الحضن الرؤوم الرؤوف الذي يبقى الإنسان منا يهفو إليه مهما امتد به العمر وكبر، ويظل يحس بألم الفقدان وخسارته على رغم السنين ولكن كانت ضربة الدهر أسرع فلقد تخطفها الموت مما أوقع المعري في هاجس الوحدة والشعور بالإثم لمبارحته إياها ومغادرتها الحياة دون أن تكتحل عيناها بمرآه وتكون هذه الفاجعة فاصلا مهما بين عهدين من حياته فلزم بيته ومعرته ، معرة النعمان لا يبارحهما مقررا :