يبدو ان الصور التي رفعتها للمقال بحجم قد يصعب على البعض مشاهدتها وعليه ها انا اعيد كتابتها ونشرها هنا ليطلع عليها الجميع ... وشكرا .
الطبيب بحرق
سعدت كثيراً , حينما سمعت عن نية القائمين بمكتب الصحة والسكان بمديرية الشحر , إصدار مجلة طبية متخصصة تعني بشئون الصحة والمرض , تسمى مجلة ( الرعايا الصحية ) تضاف إلى رصيد المجلات والنشرات الدورية الصادرة من مدينتنا الشحر كالرباط والتربوي وسعاد وضبضب والاتحاد والاستقامة وغيرها . ولكن .. لم يدور في خلدي بأنني سأشاركهم بمقال تضمه بعض صفحات عددهم الأول , لولا أن أستاذي الباحث عبد الله صالح حداد أشار لي بضرورة المساهمة بمقال فيها , لدراية الأستاذ بأنني قد عكفت زمناً على تحقيق رسالة في الطب لأحد العباقرة الذين أنجبتهم حضرموت , هي الان في طور النشر . وفضّل أن اكتب عنها شئ أو عن مؤلفها , أو عن كليهما . فما كان مني إلا المضي فيما طلبه أستاذي . إذ أن لي فيها في الوقت نفسه فرصة , لأعرض ولو شئ يسير عن ماقمت بتحقيقه وإبراز هذه الهامة الحضرمية في مجال لم يكن معروف عنها . أعود وأقول :
ربما الكثيرون منّا من محبي القراءة والإطلاع والغوص في بحور التاريخ ومنه المحلي , حيث في اعماقه الأصداف والدرر كامنة , يعرفون جيداً الفقيه الأديب العلامة محمد بن عمر بحرق الحضرمي , خاصة وان شهرة هذا الرجل العظيم بلغت الآفاق وتداول كتبه ومؤلفاته الأدباء والعلماء أما بالشرح أو التحقيق وأما بالتعليق أو الإفادة والاستشهاد . وهو صاحب المؤلفات التي تجاوزت الثلاثين كتاب ورسالة , في شتى ميادين المعرفة السائدة وقتذاك ( فقه , عقيدة , سيرة , أدب , لغة , فلك , تاريخ , .. الخ ) مابين مطبوع منها وآخر لا يزال مخطوط . إلا أن القليل من هؤلاء يعلم أن العلامة بحرق ألف ايضاَ رسالة جامعة شاملة في الطب والصحة من يقف عليها ويتفحصها , سيلاحظ بما لا يدع مجالاً للشك مدى إلمام وسعة إطلاع علامتنا بحرق بعلوم الطب وبخواص الأغذية والأدوية , تجعلنا ومن دون مواربة أو مغالاة نصنف هذا العلم الحضرمي الشامخ الى جانب غيره من مشاهير العرب والإسلام في مجال الطب كإبن سينا والزهري والرازي وابن النفيس وابن البيطار وغيرهم . بل ولا نغالي ايضا أن قلنا بان بحرق هذا قد استوعب جل علوم هؤلاء وغيرهم ممن سبقه , واستطاع بعلمه وحنكته أن يبتدع لنا علم آخر أو قل يضع أصول لهذا العلم الجديد وهو العلم الذي اصطلح عليه حديثاً بـ( العلاج بالغذاء أو الطب البديل ) وان لم يصرح بهذا . وهو علم مختلف عن مايسمى بـ( طب الأعشاب ), العلم الذي اشيع وبرع فيه العديد ممن سبق بحرق من أطباء . كما انه يختلف عما يسمى بالطب النبوي أو العلاج بالقرآن . كما لم يجعله يأخذ منحى غريب أسوة بما فعله بعض من سبقه أو عاصره او جاء بعده, ممن جعل عملية التطبيب وعلاج الأمراض ممزوجة بما ذكرنا مضاف إليها رقي وتعاويذ سحرية أو طلاسم وأوفاق أو تصريف للأسماء والروحانيات وغيرها تعد في مفهوم العصر من علوم الدجل والشعوذة الزائفة .
كما أن بحرق بمؤلفه هذا يعد أول حضرمي ( ولادة ونشأة ) ألف في مجال الطب عموماً . وان كنا نعرف قبله أطباء حضارمة مشهورون منهم أثير بن عمرو الحضرمي . إلا إننا لم نجد لهذا الأخير مؤلف ينسب .
ويتوجب علينا ونحن في صدد استعراض مؤلف بحرق في الطب أن نحيط ولو باليسير من حياة وسيرة هذا العلامة الجليل ( محمد بن عمر بحرق السيباني الحضرمي ) خاصة وان هناك من ترجم له ومنهم من نشر بعض مؤلفاته . إلا أن الخلط والغلط سواء ( المقصود أو الغير مقصود ) نال تلك الترجمة في العديد من الأوجه , وهو مابيناه وفصلناه في مقدمة تحقيقنا لمخطوط بحرق الموسوم بـ( الكافية في أصول علم الطب ) .
وعلامتنا بحرق ولد في ليلة النصف من شعبان سنة 869هـ في مدينة الشحر على أرجح الأقوال , وليس كما يظن ويذاع انه من مواليد سيئون ( بينا أدلة ذلك في مقدمة تحقيقنا للمخطوط ويتعذر علينا هنا تفصيل ذلك في مقال كهذا ), تلقى تعلميه الأولي في كتاتيب الشحر وغيل باوزير ثم تلقى العلم بالجامع الكبير بالشحر , كما انتقل إلى تريم وعدن وزبيد رغبة في طلب العلم ونهله من مصادره . تولى قضاء الشحر فترة ثم عزل نفسه وارتحل إلى عدن حيث الشيخ ابوبكر بن عبد الله العيدروس العدني . كما تفقه على يد الشيخ حمزة الناشري وصاهره ابنته وله منها عقب ( يوجد في زبيد عدد من الأسر يطلق عليهم بالحضرمي ينتسبون إلى علامتنا بحرق كما يدعون والرواية لأستاذي حداد ) . كما ارتحل إلى الهند وألتحق بالبلاط تحت ظل السلطان مظفر شاه بن محمود . وفيها مات ومنهم من قال قتل مسموم . وكان هذا في 20 شعبان 930هـ .
وكما اشرنا سابقاً فلبحرق العديد من المؤلفات التي تجاوزت الثلاثين وفي مجالات عدة منها المطبوع ومنها المخطوط . من هذه المؤلفات : كتاب حلية البنات والبنين فيما يحتاج إليه من أمر الدين ( طبع ) . وكتاب الحديقة الأنيقة في شرح العروة الوثيقة ( طبع بتحقيق الشيخ محمد مخلوف ) , كتاب الحسام المسلول على منتقصي أصحاب الرسول ( طبع مرات ) , نشر العلم في شرح لامية العجم . وشرح لامية الأفعال , وعقد الدرر في الإيمان بالقضاء والقدر وغيرها بما فيها أرجوزته في الطب وشرحها وهي التي قمنا بتحقيقها تحت اسم ( الكافية في أصول علم الطب ) .
والمخطوط الذي قمنا بتحقيقه من مقابلة أربع نسخ له مصدر احداها جامعة لايبسيك الالمانية والأخريات تحصلت عليها من مكتبة جامعة الاحقاف بتريم . وهي تضم عدد ( 152 ) بيت شعري للمنظومة , مع الشرح .
ذكر بحرق في البيت 149 اسم مؤلفه بقوله : فهذه كافية ذو اللب والفهم في أصول علم الطب .
والعلامة بحرق ألف مخطوطته هذه على الأرجح وهو في سن الـ( 41 ) أي سنة 910هـ وهي فترة نضوج الإنسان ذهنياً وجسدياً . كما أنها المرحلة التي يكون فيها المرء قادراً على البذل والعطاء والاستفادة من تجاربه ومعارفه وخبراته .
وفي بداية مخطوطته بين لنا المؤلف أسباب كتابة المنظومة الطبية وشرحها وهي (( تبصرة للمبتدئ وتذكرة للمنتهي )) ثم اتبعها بمقدمة بيّن فيها علاقة الطبائع والأمزجة بالفصول الأربعة وخاصية كل طبيعة ومايتوافق ويتناسب معها . كما ابتدئ مقدمته هذه بتبيان أهمية علم الطب وفضله , وهو كرجل دين وفقه ايضا لم يغفل ماجاء في كتب السنة عن فضل هذا العلم وشرفه وأهميته والذي اعتبره { فرض كفاية على المسلم } .
وقد قسم بحرق الطب إلى قسمين أساسيين هما :
1- الطب الوقائي أو كما اسماه بـ( حفظ الصحة الموجودة بالتدبير )
2- الطب العلاجي التقويمي أو كما اسماه بـ ( جلب الصحة المفقودة بالعلاج ) .
ويرى بأن القسم الأول هو الأهم وكما قيل ( الوقاية خير من العلاج ) , ( درهم وقاية خير من قنطار علاج ) حيث يقول بحرق : (( الاحتما في حال الصحة خير من شرب الدواء في المرض , والعاقل طبيب نفسه يدبر الأشياء قبل وقوعها ليفوز بسلامة العافية )) . وهذا النوع كما يرى لا يحتاج منّا الشئ الكثير بقدر مايتطلب منّا الإلمام بخواص الأغذية المتناولة وطبائعها ومعرفة فوائدها وأضرارها .
أما القسم الأخر وهو العلاج التقويمي أو الشفائي وهذا النوع يشمل تماماً مايسمى حديثاً بعناصر الرعايا الطبية والتي تشمل :
1- تشخيص ومعرفة المرض .
2- علاج المرض أو الإصابة .
3- الارتقاء بالصحة ومنع المرض .
يقول بحرق (( وكذلك معرفة الثاني متوقفة على معرفة الأمراض وأسبابها ومعرفة خواص الأغذية والأدوية , ليعالج الداء بما يضاده , ويحمي المريض عما يزيد في علته )) . وقد بين الغرض من منظومته هذه وهو (( الإشراف على أصول الفن ليخرج الإنسان عن حيز الجاهلين , فالمرء عدو ماجهله ويقبح بالعاقل عداوة العلوم النافعة )) .
وقد قسم بحرق منظومته إلى ثلاثة أبواب رئيسية وهي :
1- باب في تدبير الصحة .
2- باب في طبائع بعض الأغذية والأدوية تناول فيه أربعة فصول .
3- باب في العلل الحادثة بزيادة الطبائع وأسبابها وعلاماتها وعلاجها .
وفيما يتعلق بمصادر العلامة بحرق فبعضها ذكرها صراحة في سياق شرحه أهمها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف . كما أشار إلى أبي حامد الغزالي دون أن يسمي مؤلفه صراحة والأقرب انه ( الإحياء ) . إما الكتب التي ذكرها صراحة فأشار إلى كتاب المفردات في خواص الأدوية والأغذية لأبن البيطار . وكتاب تقويم الأبدان في العلل وعلاماتها وأسبابها وعلاجاتها لابن جزلة . إلى جانب مصادر أخرى لم يسميها صراحة وإنما اكتفى بالقول : كما قالت الحكماء .
ومثل ما اشرنا في مستهل حديثنا أن بحرق ركز في رسالته هذه على المواد الغذائية التي يتناولها الإنسان وما يمكن أن تحدثه من علاج لعدد من الأمراض . وليس على أعشاب هذه المواد كما فعله أستاذه ابن البيطار في كتابه السابق الذكر .
ففيما يتعلق بالمواد التي ذكرها وبين خواصها وفضلها في العلاج نشير إلى : العسل , الثوم , البصل , السمسم , الملح , الخل , السمن , الزبدة , السليط , العلك , القرنفل , الزنجبيل , الفلفل , الزعفران , الأفيون , السكر , السكر الأحمر , الحلبة , الحلتيت , قصب السكر , الموز , الدجر , حب الرشاد , التمر , اللوز , الكراث , الباذنجان , النبق , التمر الهندي , القرع , الحنبص , الفول , الأرز , الليمون , البطيخ , الفجل , الدخن . اللحم . ولنلاحظ فان كل هذه الغذاءات والمواد موجودة ومتوفرة بالبيئة الحضرمية . ولم يشر إلى أي مادة غير موجودة ببيئتنا . وفيها يقول بحرق بالباب الثاني في خواص بعض الأدوية (( وقد ذكرت في النظم مايكثر استعماله في جهة حضرموت والشحر من الأغذية واستطردت معها بذكر خواص الأدوية لتكمل الفائدة وأفردت كل نوع من الأغذية والأدوية بفصل فصارت أربعة فصول )) .
أما العلل والأمراض التي تناولها وقدم لها علاجات نشير إلى :
الصداع , الشقيقة , القوب ( الحزاز ) , داء الثعلبة , البواسير , الصفار ( اليرقان ) , الحمى بأنواعها . حصر البول ( الرواسب ) , اللثة , السعال , الحكة , الغشا , احتباس دم الحيض , لسع العقرب , الصرع , التهاب الحلق والمفاصل , البهق , الجرب , الجدري , الأورام , الفالج , ديدان البطن , النزيف , النسيان , الكلف , النمش .
انور حسن السكوتي