دور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط
تأليف: د. يوسف العش
ترجمه عن الفرنسية: نزار أباظة ومحمد صبّاغ
دار الفكر- دمشق، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث - دبي سنة 1991م، 438 ص،24سم.
قسم الدكتور العش - رحمه الله - كتابه هذا إلى قسمين اثنين، قدم لهما بمقدمة مستفيضة، ذكر فيها أعمال من سبقه إلى التأليف في موضوع المكتبات العباسية من المستشرقين، وعرضها بطريقة نقدية، وبين محاسن كل عمل وما يؤخذ عليه، ثم خلص بعد ذلك إلى أن حدد موضوعه في الزمان والمكان من خلال ما رآه ضروريا، ذاكراً معاناته، والصعوبات التي اعترضته قبل العمل وفي أثناء التحضير له، وسرد المراجع الأساسية التي عاد إليها عند البحث، والمصادر الرئيسية التي حددها للدراسة.
في القسم الأول تناول المكتبات تناولاً تاريخياً، فدرسها في ثلاثة فصول، تحدث الفصل الأول عن بيوت الحكمة منذ أصولها الأولى، وكيف نشأت أيام الأمويين، ثم كيف تطورت زمن المنصور والرشيد ونمت بفضل المأمون، ثم كيف انتهت بعده. وذكر ما قدمته هذه البيوت من خدمة للثقافة والفكر والعقيدة، مشيراً إلى الصراعات الفكرية التي نشأت حولها، ثم انتهى من ذلك إلى نتيجة محددة ورأي دعمه بالحجج، ثم عرض للمكتبات شبه العامة التي نافست بيوت الحكمة.
ووقف الفصل الثاني على دُور العلم، ففصل الحديث في الظروف التي أنشأتها، والعقيدة التي غلفتها، والصراع الخفي أو الظاهر الذي قام فيها، والغاية التي هدفت إليها، والنهاية التي أوفت عليها.
ودرس في الفصل الثالث المكتبات الملحقة بالمدارس، ودور الحديث، والبيمارستانات، والمشاهد، والخانقاهات، والرباطات، وسواها من المنشأت التي ظهرت في عصر السلاجقة والأيوبيين لتخلُفَ دُور العلم. وبين كيف استفادت هذه الأخيرة من سابقاتها تجربتها.
وجاء القسم الثاني من الكتاب (القسم الوصفي) لطيفاً فيه طرافة، وضع اليد على حياة المكتبات العامة وشبه العامة، فوصفها وصفاً دقيقاً حياً كأننا نراها، وقد ذكر فصولاً مهمة كثيرة، تناولت موضوعات ضرورية فيما هو آخذ بسببه، فذكر بالتفصيل صفة المكتبات، وتحدث عن أماكنها وأشكالها وصناديقها وخزائنها وتصنيفها وفهارسها وموظفيها ومستخدميها، بدءاً من ناظر الوقف، ومروراً بالخازن والمشرف، حتى المناولين والفراشين. وبحث في نفقاتها وموازناتها وإيراداتها، ثم ختم الحديث بالإعارة الخارجية ذاكراً رأي التشريع الإسلامي بهذا المجال، وأقوال الفقهاء، ومواقف الواقفين، مبيناً الآداب الواجب اتباعها في استعارة الكتب ومطالعتها واستعمالها.
أمر مهم كان الدكتور يطوف حوله ويكشف عنه اللثام شيئاً فشيئاً. وهو - فيما يبدو - أحد أغراض الكتاب الرئيسية، ألا وهو تأكيد أثر الجوانب المذهبية في قيام المكتبات العربية ونشأتها. وتكتمل هذه الجوانب في أذهاننا مع نهايات الدراسة، فنوقن آخر المطاف أن كل شكل من أشكال المكتبات في العصر العباسي المديد كان يخدم مذهباً بعينه، ويؤسس له ويدعو إليه.
كان ينبغي أن يترجم هذا الكتاب إلى العربية منذ أمد بعيد، لأن المكتبة العربية وهو يؤرخ لها أَولى به من سواها، ولكن لأمر يريده الله بقي الكتاب حقبة في أوراقه التي دفعها مؤلفها إلى السوربون، وقبل أن تخرج طبعته الفرنسية سنة 1967م، تشاء الأقدار أن يلحق مؤلفه الأستاذ الباحث الدكتور يوسف العش بربه حميداً قبل أن يكتمل تصحيح تجاربه الطباعية.
ثم بقي الكتاب على أصوله الفرنسية لا ينتفع به من لا يعرفها ويتقنها، مع افتقار الدارسين العرب في مجال المكتبات إليه وحاجتهم إلى أضرابه. ويجب التنويه هنا إلى أن بعض الباحثين نهلوا منه واعتمدوا عليه دون أن يشيروا إليه، فاستفادوا من فضل المتقدم الذي بقي حقه مغموطاً.
والمركز، وهو يقدم هذا العمل العلمي المتمثل بترجمة رسالة الدكتوراه ليوسف العش، في محاولة منه لإيفاء مثل هذا العملاق جزءاً من حقه، ويسد بذلك ثغرة مهمة وحلقة مفقودة من تأريخ المكتبات، يثمن ما قام به المحققان الأستاذان: نزار أباظة، ومحمد الصباغ، من جهد نظراً لغزارة المصادر التي اعتمد عليها العش، والرجوع إلى أصولها العربية؛ لأنه لا يعقل أن تترجم الترجمة، ولقد واجهتهما صعوبات جمة تمثلت في نفاد الطبعات التي اعتمدها المؤلف وندرتها، وتناثر المخطوطات التي رجع إليها بين عدد من الدول. فعاشا مع الترجمة يتعلمان من مدرسة العش الغنية بالأسلوب العلمي، وذكاء الاستنتاج، ودقة التحليل، ولطف العرض، ولم ينسيا أن يشركا نجل العش: الدكتور صفوان، في نشر تراث والده وفاءً له، فسعى لترجمته في بداية الكتاب.